تقارير

صراع ال AI: هل تستطيع الصين كسر حاجز التفوق الأمريكي في المستقبل؟

كتبت: رنيم شكري

في عالم يتشكل مصيره بقوة الذكاء الاصطناعي، أصبح السباق نحو الهيمنة التكنولوجية أكثر من مجرد تنافس اقتصادي، بل تحول إلى معركة استراتيجية تحدد ميزان القوى العالمي في القرن الحادي والعشرين. على مدى العقد الماضي، سيطرت الولايات المتحدة على المشهد العالمي للذكاء الاصطناعي، من خلال شركات عملاقة مثل جوجل ومايكروسوفت وأمازون، بالإضافة إلى جامعات رائدة تخرج آلاف الخبراء سنويًا. لكن هذا المشهد بدأ يتغير، حيث تبرز الصين كمنافس شرس، في حين تحاول الشركات الناشئة في مختلف أنحاء العالم كسر احتكار التقنيات المتقدمة. فهل يمكن فعلاً زعزعة الهيمنة الأمريكية، أم أن التفوق التكنولوجي لأمريكا سيبقى صعب الاختراق؟

لطالما كانت الولايات المتحدة الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، وذلك بفضل بنية تحتية بحثية متطورة، واستثمارات ضخمة من القطاع الخاص، وجاذبية عالمية لأفضل العقول. وادي السليكون ظل لسنوات القلب النابض للابتكار التكنولوجي، حيث تخرج من مختبراته أحدث النماذج مثل GPT من OpenAI وأنظمة الرؤية الحاسوبية المتطورة. الحكومة الأمريكية أيضًا تدعم هذا المجال بشكل غير مباشر من خلال التمويل العسكري والأكاديمي، مما يضمن بقاء الريادة التكنولوجية في أيديها. لكن هذا التفوق لم يعد مضمونًا كما كان في السابق.

الصين، التي أعلنت عن طموحها بأن تصبح الرائدة عالميًا في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، تقود تحديًا جادًا للنموذج الأمريكي. بفضل استثمارات حكومية هائلة وسياسات داعمة، ظهرت شركات صينية مثل Tencent وBaidu وSenseTime كأسماء بارزة في سباق الخوارزميات المتقدمة. الصين لديها ميزة أخرى تتمثل في كمية البيانات الهائلة التي تنتجها سكانيًا، وهي المادة الخام الأساسية لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الرقابة الحكومية الصارمة تسمح للسلطات بتوجيه البحث نحو أهداف استراتيجية، بعيدًا عن القيود الأخلاقية أو القانونية التي قد تعيق التطور في الغرب.

لكن التحديات التي تواجهها الصين كبيرة أيضًا. الحرب التجارية مع الولايات المتحدة فرضت قيودًا على تصدير الرقائق المتطورة، وهي عصب تدريب النماذج الكبيرة. كما أن غياب حرية البحث العلمي قد يعيق الإبداع على المدى الطويل، خاصة في مجال يحتاج إلى أفكار جريئة وتجريبية. رغم ذلك، فإن الصين أثبتت مرارًا قدرتها على اللحاق بالركب في مجالات تكنولوجية أخرى، مثل الاتصالات والطاقة المتجددة، مما يجعل من السابق لأوانه استبعادها من السباق.

بين هذين العملاقين، تبرز لاعبون آخرون يحاولون كسر الاحتكار، سواء عبر شركات ناشئة أو دول تسعى لبناء قدراتها الذاتية. في أوروبا، على سبيل المثال، تظهر محاولات جادة لخلق بديل مفتوح المصدر يعتمد على الشفافية والأخلاقيات، كما في مشروع “GPT-EU” الذي تقوده فرنسا وألمانيا. أما في الشرق الأوسط، فإن الإمارات العربية المتحدة تستثمر بكثافة في بناء بنية تحتية للذكاء الاصطناعي، مستفيدة من الثروة النفطية في التحول نحو اقتصاد المعرفة. حتى في إفريقيا، تظهر شركات ناشئة تعتمد على حلول ذكاء اصطناعي مخصصة لمشاكل محلية، مثل التشخيص الطبي في المناطق النائية.

لكن هل يمكن لهذه الجهود أن تشكل تحديًا حقيقيًا؟ المشكلة الكبرى التي تواجه الشركات الناشئة والدول الصغيرة هي نقص الموارد. تدريب نموذج ذكاء اصطناعي على مستوى GPT-4 يتطلب مئات الملايين من الدولارات، ناهيك عن الحاجة إلى بنية تحتية حاسوبية هائلة. معظم الشركات الناشئة تعتمد على نماذج مفتوحة المصدر أو تقنيات جاهزة، مما يحد من قدرتها على المنافسة مع العمالقة. كما أن هجرة العقول تظل تحديًا، حيث يفضل الكثير من الباحثين العمل في الشركات الأمريكية أو الصينية ذات الإمكانيات المالية الكبيرة.

ومع ذلك، فإن التاريخ التكنولوجي يعلمنا أن الهيمنة لا تدوم إلى الأبد. من يذكر اليوم أن اليابان كانت في الثمانينيات تعتبر التهديد الأكبر للسيطرة الأمريكية على التكنولوجيا؟ التغييرات الكبرى تأتي أحيانًا من حيث لا نتوقع، سواء عبر اختراق علمي صغير يغير قواعد اللعبة، أو من خلال تحالفات دولية تعيد رسم خريطة القوى. الذكاء الاصطناعي قد يكون مختلفًا بعض الشيء، لأنه يعتمد على البيانات والخبرة أكثر من الاعتماد على الموارد الطبيعية، لكن ذلك لا يعني أن النظام الحالي غير قابل للتغيير.

في النهاية، فإن الصراع على الذكاء الاصطناعي ليس مجرد سباق تقني، بل هو انعكاس للتنافس الجيوسياسي الأوسع بين الشرق والغرب. الولايات المتحدة تملك حاليًا الأفضلية، لكن الصين تقترب بسرعة، والشركات الناشئة قد تقدم مفاجآت في السنوات القادمة. السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن العالم سيشهد نظامًا متعدد الأقطاب في الذكاء الاصطناعي، حيث تتنافس عدة نماذج مختلفة، كل منها يعكس أولويات وقيم الجهة التي تقف خلفه. لكن ما هو مؤكد أن هذه المعركة ستحدد ليس فقط مستقبل التكنولوجيا، بل أيضًا ملامح المجتمع البشري لعقود قادمة.

زر الذهاب إلى الأعلى