زيارة مفصلية في العلاقات الدولية.. لقاء ماكرون والشرع في مؤتمر الزيارة الغربية الأولى

كتبت: فاطمة إسماعيل
شهد قصر الإليزيه في باريس حدثًا دبلوماسيًا استثنائيًا يوم 7 مايو 2025، تمثل في استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، في زيارة رسمية هي الأولى من نوعها لرئيس سوري إلى الغرب منذ اندلاع الحرب السورية عام 2011. هذا اللقاء لم يكن مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل حمل دلالات سياسية عميقة تتجاوز العلاقة الثنائية لتؤثر على مسارات السياسة الإقليمية والدولية.
الزيارة في السياق: سوريا بعد الأسد
منذ سقوط نظام بشار الأسد في أواخر عام 2024، بدأت سوريا مرحلة انتقالية حساسة يقودها الرئيس المؤقت أحمد الشرع، الذي يُعد وجهًا جديدًا نسبيًا في الساحة السياسية السورية. وتأتي زيارته إلى فرنسا في إطار البحث عن دعم سياسي واقتصادي غربي يعزز جهود إعادة الإعمار، ويعيد دمج سوريا في المجتمع الدولي بعد سنوات من العزلة والعقوبات.

لقاء القمة: أهداف ومخرجات
خلال المؤتمر الصحفي المشترك، أكد الرئيس ماكرون أن فرنسا تقف إلى جانب الشعب السوري في سعيه لتحقيق السلام والديمقراطية. وأضاف: “لن تكون هناك عودة للوضع السابق، نحن ندعم بناء سوريا جديدة، موحدة، تحترم جميع مكوناتها”.
أما الرئيس الشرع، فقد عبّر عن تقديره للدعم الفرنسي، مشيرًا إلى أن الشعب السوري يعوّل كثيرًا على الشراكات مع الدول الغربية للمساهمة في إنجاح المرحلة الانتقالية، وتخفيف الأعباء الاقتصادية التي خلفتها الحرب.
مخرجات ملموسة للقاء:
-
الاتفاق على تسهيل وصول المساعدات الإنسانية.
-
دعم فرنسي مبدئي لرفع تدريجي للعقوبات الأوروبية المفروضة على سوريا.
-
دعوة لإطلاق مؤتمر دولي لإعادة الإعمار بمشاركة مانحين من أوروبا والشرق الأوسط.
-
تعزيز التنسيق الأمني في مكافحة الإرهاب، خاصة في مواجهة خلايا داعش النشطة في بعض المناطق السورية.
ملف العقوبات: بابٌ يُفتح بشروط
واحدة من أبرز القضايا التي طُرحت خلال اللقاء كانت مسألة العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا. دعا ماكرون إلى رفع تدريجي ومدروس لتلك العقوبات، مشروطًا بإثبات الحكومة الانتقالية التزامها بالإصلاح السياسي، واحترام حقوق الإنسان، ومحاسبة مرتكبي الجرائم في عهد النظام السابق.
هذا الموقف لاقى ترحيبًا من الشرع الذي أكد أن العقوبات “لم تعد موجهة ضد النظام القديم بل أصبحت عبئًا على المواطن السوري”. كما شدد على أن حكومته منفتحة على أي آلية رقابية تضمن شفافية استخدام الموارد.
البعد الإنساني: سوريا جريحة تنتظر الشفاء
توقفت المحادثات أيضًا عند الوضع الإنساني الكارثي الذي تعيشه سوريا، حيث يعاني أكثر من 13 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي والرعاية الصحية. تم الاتفاق على توسيع الممرات الإنسانية وتعزيز دور المنظمات الدولية في الوصول إلى المناطق الأكثر تضررًا، بما في ذلك المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة.
إعادة الإعمار: الرهان الاقتصادي
الرئيس الشرع دعا الدول الأوروبية إلى المشاركة في إعادة إعمار سوريا، مشددًا على أن ذلك “ليس مجرد عمل إنساني بل فرصة اقتصادية ضخمة”. وتشير التقديرات إلى أن إعادة إعمار البنية التحتية وحدها قد تتطلب ما يزيد عن 300 مليار دولار، مما يجعل من سوريا سوقًا استثمارية مستقبلية ضخمة في المنطقة.
مكافحة الإرهاب: توافق وتنسيق
تناول اللقاء ملف الإرهاب، خاصة أن الخطر لم يزل كاملاً في سوريا، حيث تنشط بعض خلايا “داعش” وفلول التنظيمات المتطرفة في شرق البلاد. اتفق الطرفان على ضرورة استمرار الجهود المشتركة في هذا الإطار، وأعلن ماكرون استعداد بلاده لدعم القوات السورية في تعزيز قدراتها الاستخباراتية والأمنية.

رسائل سياسية من باريس إلى الإقليم
زيارة الشرع حملت رسائل سياسية واضحة موجهة إلى الأطراف الإقليمية الفاعلة، لعل أبرزها:
-
رسالة إلى روسيا وإيران: بأن نفوذها في سوريا لم يعد مطلقًا، وأن هناك انفتاحًا غربيًا حقيقيًا على دعم بديل سياسي جديد.
-
رسالة إلى الدول الخليجية: بأن الغرب مستعد لتنسيق مشترك في دعم الاستقرار السوري.
-
رسالة إلى المعارضة السورية: بأن العمل السياسي التوافقي لا يزال ممكنًا إذا ما توفرت الإرادة.
الملف اللبناني: البعد الإقليمي للقاء
لم تغب الأزمة اللبنانية عن اللقاء، خصوصًا فيما يتعلق بالحدود المشتركة بين البلدين. شدد ماكرون على أهمية تأمين هذه الحدود لمنع تسرب السلاح والمسلحين، ودعا إلى تفعيل التعاون الأمني الثلاثي بين سوريا ولبنان وفرنسا.
مواقف دولية: بين الترحيب والتحفظ
لقيت الزيارة ترحيبًا حذرًا من بعض العواصم الغربية، التي اعتبرتها خطوة أولى نحو إنهاء عزلة سوريا. بالمقابل، أبدت منظمات حقوقية تخوفها من أن يؤدي الانفتاح الغربي إلى تجاهل المحاسبة على الانتهاكات السابقة. وهنا شدد ماكرون على أن “لا مصالحة دون عدالة”.
الرأي العام السوري: تطلع وأمل مشوب بالحذر
في الداخل السوري، تباينت ردود الفعل بين التفاؤل بإمكانية انفتاح حقيقي على العالم، والقلق من أن يتحول الانفتاح إلى ورقة تجميل دون إصلاح فعلي. لكن الغالبية رحبت بالزيارة كخطوة أولى على طريق طويل نحو الاستقرار.
لا شك أن لقاء ماكرون والشرع يمثل لحظة دبلوماسية محورية في التاريخ الحديث لسوريا، وقد يشكل بداية لتغيرات كبيرة في توازنات القوى داخل البلاد، وفي نظرة المجتمع الدولي إلى ما بعد الأسد، لكن النجاح الكامل لهذه الزيارة سيبقى مشروطًا بمدى التزام الحكومة الانتقالية بتنفيذ وعودها، وقدرة المجتمع الدولي على ترجمة دعمه السياسي إلى دعم ملموس يعيد لسوريا مكانتها، وينقذ شعبها من المعاناة التي طال أمدها.
- للمزيد : تابع العاصمة والناس، وللتواصل الاجتماعي تابعنا على فيسبوك وتويتر .